داء السكري، أو “الداء السكري” كما يعرف علميًا (Diabetes Mellitus)، هو حالة استقلابية (أيضية) مزمنة تتميز بارتفاع مستويات الجلوكوز (السكر) في الدم. هذا الارتفاع ليس عرضيًا، بل هو نتيجة لخلل في إنتاج هرمون الأنسولين، أو في كيفية استخدام الجسم له، أو كليهما. والأنسولين، الذي يفرزه البنكرياس، هو المفتاح الذي يسمح للجلوكوز بالانتقال من مجرى الدم إلى داخل الخلايا لتزويدها بالطاقة. عندما يفقد هذا المفتاح قدرته على العمل، يتراكم السكر في الدم، ليبدأ رحلة من التأثيرات الضارة على كافة أعضاء الجسم.
لفهم الأسباب، يجب أولاً أن نفرق بين أنواعه الرئيسية، فلكل منها قصة مختلفة ومسببات متفردة.

السكري من النوع الأول: حينما يهاجم الجسم نفسه (مرض مناعي ذاتي)
تخيل أن جيش الدفاع في بلدك يبدأ فجأة بمهاجمة مدنه وقواعده الحيوية. هذا بالضبط ما يحدث في السكري من النوع الأول. هنا، يقوم الجهاز المناعي، الذي وظيفته حماية الجسم من الفيروسات والبكتيريا، بشن هجوم خاطئ ومدمر على خلايا “بيتا” (Beta cells) في البنكرياس، وهي المصنع الوحيد لهرمون الأنسولين في الجسم.
1. الاستعداد الوراثي: الشفرة المكتوبة مسبقًا
لا يولد الشخص مصابًا بالسكري من النوع الأول، ولكنه قد يولد ولديه استعداد وراثي للإصابة به. تلعب الجينات دورًا محوريًا في هذا الاستعداد. أبرز هذه الجينات هي تلك الموجودة في منطقة تُعرف بـ “مستضد الكريات البيضاء البشرية” (HLA) على الكروموسوم رقم 6. بعض أنواع هذه الجينات (مثل HLA-DR3 و HLA-DR4) تجعل الشخص أكثر عرضة لتطوير هذا الرد المناعي الذاتي. إذا كان أحد الوالدين أو الأشقاء مصابًا، يزداد خطر الإصابة بشكل طفيف، مما يؤكد على العامل الوراثي.
2. المحفزات البيئية: الشرارة التي تشعل النيران
الجينات وحدها لا تكفي. يعتقد العلماء أن هناك “محفزًا” بيئيًا يقوم بتنشيط الجهاز المناعي لدى الأشخاص الذين لديهم الاستعداد الوراثي. تتجه أصابع الاتهام بقوة نحو:
- العدوى الفيروسية: تعتبر الفيروسات المشتبه به الرئيسي. فيروسات مثل “كوكساكي بي” (Coxsackie B)، والحصبة الألمانية، والفيروس المضخم للخلايا قد تحتوي على بروتينات تشبه إلى حد كبير بروتينات خلايا بيتا. في خضم حربه ضد الفيروس، قد “يحتار” الجهاز المناعي ويهاجم خلايا بيتا بالخطأ، في عملية تُعرف بـ “المحاكاة الجزيئية” (Molecular Mimicry).
- عوامل أخرى: تشير بعض الأبحاث إلى أن عوامل مثل إدخال حليب البقر في وقت مبكر جدًا من حياة الرضيع، أو نقص فيتامين (د)، أو التعرض لبعض السموم قد تلعب دورًا ثانويًا كمحفزات محتملة.
بمجرد أن تبدأ هذه العملية، يكون التدمير تدريجيًا وصامتًا. وعندما يتم تدمير ما يقرب من 80-90% من خلايا بيتا، يتوقف إنتاج الأنسولين تقريبًا، وتبدأ أعراض السكري من النوع الأول بالظهور بشكل مفاجئ غالبًا، مثل العطش الشديد، كثرة التبول، فقدان الوزن غير المبرر، والإرهاق.
السكري من النوع الثاني: مقاومة عنيدة ونمط حياة مرهق
يمثل السكري من النوع الثاني أكثر من 90% من حالات السكري حول العالم، وقصته مختلفة تمامًا. هنا، لا يهاجم الجسم نفسه، بل تنشأ المشكلة من حالتين متزامنتين:
- مقاومة الأنسولين (Insulin Resistance): في البداية، ينتج البنكرياس الأنسولين، ولكن خلايا الجسم (خاصة في العضلات والكبد والدهون) لا تستجيب له بشكل فعال. الأمر أشبه بوجود المفتاح، لكن القفل أصبح صدئًا ويحتاج إلى قوة أكبر لفتحه.
- الإرهاق التدريجي للبنكرياس: مع مقاومة الخلايا للأنسولين، يحاول البنكرياس التعويض عن ذلك بضخ كميات أكبر وأكبر من الهرمون للحفاظ على مستوى السكر في الدم طبيعيًا. مع مرور الوقت، تُنهك خلايا بيتا وتفقد قدرتها على مواكبة الطلب المتزايد، فيبدأ إنتاج الأنسولين بالانخفاض.
هذا المزيج القاتل من المقاومة ونقص الإنتاج النسبي يؤدي إلى تراكم الجلوكوز في الدم. أسباب هذه الحالة معقدة ومتعددة العوامل، وهي مزيج من الوراثة وأسلوب الحياة.
1. الوزن الزائد والسمنة: العدو الأكبر
تعتبر السمنة، وخاصة تراكم الدهون في منطقة البطن (الكرش)، هي عامل الخطر الأهم والأقوى للإصابة بالسكري من النوع الثاني. الخلايا الدهنية، خاصة تلك الموجودة حول الأعضاء الداخلية (الدهون الحشوية)، ليست مجرد مخازن للطاقة، بل هي نسيج نشط هرمونيًا. هذه الخلايا تفرز مواد كيميائية تسمى “الأديبوكينات” (Adipokines) ومواد أخرى مسببة للالتهاب:
- اللبتين (Leptin): في الحالة الطبيعية، هو هرمون الشبع. لكن في السمنة، يصبح الجسم مقاومًا لتأثيره، مما يساهم في زيادة مقاومة الأنسولين.
- الأديبونكتين (Adiponectin): هذا هرمون مفيد يزيد من حساسية الأنسولين. المثير للقلق أن مستوياته تنخفض لدى الأشخاص الذين يعانون من السمنة.
- السيتوكينات الالتهابية: تفرز الخلايا الدهنية جزيئات تسبب حالة من الالتهاب المزمن منخفض الدرجة في الجسم، وهو ما يعزز مقاومة الأنسولين بشكل مباشر.
2. نمط الحياة الخامل:
قلة النشاط البدني تساهم بشكل مباشر في مقاومة الأنسولين. التمارين الرياضية تجعل خلايا العضلات أكثر حساسية للأنسولين، مما يساعد على سحب الجلوكوز من الدم بكفاءة. الخمول يفعل العكس تمامًا.
3. التاريخ العائلي والجينات:
يلعب العامل الوراثي في النوع الثاني دورًا أقوى منه في النوع الأول. إذا كان أحد والديك مصابًا بالسكري من النوع الثاني، فإن خطر إصابتك يرتفع بشكل ملحوظ. تشير الدراسات إلى وجود أكثر من 150 متغيرًا جينيًا مرتبطًا بزيادة خطر الإصابة. هذه الجينات تؤثر على إنتاج الأنسولين، وكيفية استشعار الجسم للجلوكوز، وتطور مقاومة الأنسولين.
4. علم التخلق (Epigenetics): تفاعل الجينات والبيئة
هذا مجال علمي واعد يوضح كيف يمكن للعوامل البيئية أن “تعدل” طريقة عمل جيناتنا دون تغيير تسلسل الحمض النووي نفسه. النظام الغذائي غير الصحي، قلة الحركة، والتوتر المزمن يمكن أن تؤدي إلى تغييرات فوق جينية “تُطفئ” الجينات الواقية أو “تُشغل” الجينات المسببة للمرض، مما يمهد الطريق للإصابة بالسكري لدى الأفراد المستعدين وراثيًا.
5. عوامل خطر أخرى:
- العمر: يزداد الخطر مع التقدم في العمر (فوق 45 عامًا).
- العرق: بعض الأعراق، مثل المنحدرين من أصول أفريقية، وآسيوية، ولاتينية، هم أكثر عرضة للإصابة.
- ارتفاع ضغط الدم وخلل دهنيات الدم: غالبًا ما تترافق هذه الحالات مع مقاومة الأنسولين.
- متلازمة تكيس المبايض (PCOS): النساء المصابات بهذه الحالة لديهن خطر أعلى بكثير للإصابة بالسكري.
سكري الحمل: تحدٍ هرموني مؤقت
يحدث سكري الحمل فقط أثناء فترة الحمل. تفرز المشيمة هرمونات ضرورية لنمو الجنين، ولكن هذه الهرمونات (مثل هرمون اللاكتوجين المشيمي البشري والكورتيزول) لها تأثير مضاد للأنسولين. لدى معظم النساء الحوامل، يستطيع البنكرياس إنتاج كمية كافية من الأنسولين الإضافي للتغلب على هذه المقاومة. ولكن لدى بعض النساء، لا يتمكن البنكرياس من ذلك، مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة السكر في الدم.
عوامل الخطر تشمل السمنة قبل الحمل، وجود تاريخ عائلي للسكري، التقدم في العمر، أو الإصابة بسكري الحمل في حمل سابق. على الرغم من أن سكري الحمل يختفي عادةً بعد الولادة، إلا أنه يعتبر مؤشرًا قويًا على زيادة خطر الإصابة بالسكري من النوع الثاني في وقت لاحق من الحياة لكل من الأم والطفل.
أسباب أخرى أقل شيوعًا للسكري (السكري الثانوي)
ليست كل حالات السكري تندرج تحت الأنواع الثلاثة الرئيسية. هناك أسباب أخرى يمكن أن تؤدي إلى الإصابة بالمرض، وتعرف بالسكري الثانوي:
- أمراض البنكرياس: التهاب البنكرياس المزمن، سرطان البنكرياس، التليف الكيسي، أو استئصال البنكرياس جراحيًا يمكن أن يدمر خلايا بيتا ويسبب السكري.
- الأدوية: بعض الأدوية يمكن أن ترفع نسبة السكر في الدم وتسبب السكري، أشهرها الكورتيكوستيرويدات (الكورتيزون)، بعض مدرات البول، وأدوية معينة تستخدم في علاج الأمراض النفسية أو بعد زراعة الأعضاء.
- السكري أحادي الجين (Monogenic Diabetes): أشكال نادرة من السكري تسببها طفرة في جين واحد، وأشهرها سكري الشبان الناضجين (MODY)، الذي يظهر عادة قبل سن 25.
خاتمة: المعرفة هي خط الدفاع الأول
إن فهم أسباب مرض السكري هو حجر الزاوية في الوقاية منه وإدارته. من الهجوم المناعي الذاتي الغامض في النوع الأول، إلى التفاعل المعقد بين الجينات ونمط الحياة في النوع الثاني، وصولًا إلى العاصفة الهرمونية في سكري الحمل، تتضح لنا صورة مرض متعدد الأوجه.
المعرفة تمنحنا القوة. قوة اتخاذ قرارات واعية بشأن نظامنا الغذائي، ونشاطنا البدني، ومتابعتنا الصحية. بالنسبة للكثيرين، يمكن الوقاية من السكري من النوع الثاني أو تأخيره بشكل كبير. وبالنسبة لأولئك الذين يعيشون مع أي نوع من أنواع السكري، فإن فهم الأسباب الكامنة وراء حالتهم يمكّنهم من التحكم بشكل أفضل في مسار المرض والعيش حياة صحية ومنتجة. مهمتنا كأطباء وكمجتمع هي نشر هذه المعرفة، وتحويلها إلى إجراءات عملية، لنبني جدارًا منيعًا ضد هذا الوباء الصامت.